vendredi 12 août 2016

دفاعاً عن كرامتنا

حين سُئِل الكاتب و الأديب يوسف إدريس :"متَى تثُور؟"، أجاب قائلًا :" أنا أثور على المُستوى الشَّخصي حين أُحِسّ أنّ كبريائي جُرحَت أو خُدِشَت عن عمد "(1). بهذا الأسلوب البديع عبَّر يوسف إدريس عن أهمّية قيمة الكرامة التي لا تكتَمِل إنسانيّة الإنسان إلَّا بتوفّرها ، و التي يستحقّ فقدانها من الإنسان ثورة لاسترجاعها . و إذَا إنطلقنا من "فقدان الكرامة" كشرط للثّورة، فإنَّ الإنسان العربي سيكون أمامه حتميَّة وُلوجه دورة لا نهائيَّة من الإنتفاض و التَّمرّد . حيث أنّ إهانة الإنسان في هذه المنطقة هي الصّناعة الثَّقيلة الوحيدة التي نجَح العرب في إرسائها بعد فشلهم ، إلى حدّ الهنيهة الحاضرة ، في دخول مرحلة التَّصنيع . و لم يكن عبد الرّحمان منيف مُغاليًا أو مُتطرّفًا في توصيفه لحال الإنسان في بلادنا العربيَّة قائلًا ، في روايته شرق المُتوسّط، "أعقاب السَّجائر أغلى منه".
لكنّ عمليّة الإذلال المُستمرَّة على الشُّعوب العربيَّة أَوْجَدت عندهم حالة من التَّعوّد أضعفت قُدرتهم على الإحساس بالنّيْل من الكرامة . فاستبدَّ "تقبُّل الإهانة" بالعقل العربي ، و عشَّش في سُوَيْداء الرّوح العربيّة . وأضْحَت الإهانة وضعيَّة عاديّة لا يتنبَّهُ العربي لوُجُودها إلاَّ إذا تجاوز منْسُوبها الحدّ المُعْتَاد أو نَقُصَ عنه ، فلَكأنَّها شبيهة بالسّكّر في الدَّم لا يشعر الإنسان بوجودها إلّا إذا إنزاحَت نسبتُه و خَرَجَت من مجالها سواء بالزّيادة أوبالنّقصان . فعَلَى سبيل المثال لم يُقدِم محمّد البوعزيزي على إحراق نفسه إحتجاجًا على الإهانة التي لحِقت به إلاّ حين بلغت ذُروتها بالإعتداء المباشر عليه ، رغم أنّه كان يعيش وضعيَّةً رثَّة سابقة لحادثة الإعتداء لا تخرج عن نطاق الحَطّ من الكرامة الإنسانيَّة . كما لم يُصبح التّونسيُّون أكثر يقظة و تحفّزًا لرفض مَا يطال الإنسان من إنتهاك لحقوقه إلاَّ بعد التَّقليص النّسبي من سَطوة أجهزة القمع البولسيَّة و الحدّ من غَطْرَستها ،حيث كانت وظيفتها الأسَاسيَّة خلال فترة حكم "بن علي" أن تسوم التّونسيّين شتَّى أنواع الذّل و الهَوان . هكذا إذًا أمسَى التّونسيُّون أكثر حساسيًّة للإهانة ، و هكذا أيضًا يُمكن أن نعتبر الإحساس الجماعي و المشترك بالإهانة مدخَلًا للثَّورة الإجتماعيَّة تنفُض عن الإنسان غبار الخنوع ، و تُخلِّصه من أغلال الخُضوع ، و تجعل منه المحور الذي تدُور الحياة حوله .
فالثَّورة هي تعبيرٌ عن تَوْقٍ جماعي لاسترداد الكرامة السَّليبة ، أمَّا إنعدام الإحساس بالإهانة فيُمثِّل دعامةً للدولة العربيَّة و أجهزتها ، التي تعمل ليل نهار لتحويل الشَّعب إلى مجموعة من البِغال تئٍنُّ في صمت ، و يزيدها صلابةً و ثباتًا . بينما يُولّد الوعي بحياة الذّل التي يحياها العربي نزُوعًا جامحًا و رغبة جيَّاشة في إِسْتردَاد وَ إِنقَاذ الكرامة المَنْحُورَة على مذابح المستعمرين و الجيوش المحلّية و الغازية و رجال المخَابرات و أباطرة المال و مشايخ الدَّجل الديني .
و نحن إِذْ نُولي قيمة الكرامة كلّ هذه الأهمّية فذلك لأنّها مِن الشُّمولية بحيث تُلخِّصُ أبعاد المعركة ، التي على القوى التقدمية و الثوريّة خَوضها في هذه المرحلة المُعقّدة من تاريخنا . و هي معركة ثُلاثِيَّة المحاور تدور كلّها في فلك "الكرامة الإنسانيَّة" ، و يمكن إيجازها كالآتي :
أوَّلًا : المسألة الإجتماعيَّة و قضيَّة التّوزيع العادل للثَّورة التي كانت السّبب الرَّئيس في إندلاع الشّرارة الأولى للإنتفاضات العربيّة من مدينة سيدي بوزيد المهمَّشة و المنسيَّة .
ثانيًا : مسألة الحُرّيات العامَّة و الفرديَّة و حتميّة الإستماتَة في الدّفاع عن الحقّ الذي إنتزعته الجماهير الثَّائرة ، الحقّ في التَّعبير و التَّظاهر و التَّنظُّم . و هي قضيَّة يجب أن تحْتَلّ حيّزًا هامًّا في جدول أعمال القُوى الديمقراطيَّة بالنَّظر لأنّ القمع عاد ليُطِلّ برأسه من وراء ستار "الحرب على الإرهاب"، وليَتَّهِم كلّ من يرفع صوته ضدّ السّلطات الحاكمة بالتَّواطئ مع الإرهاب . و هو ما يُحِيلُنا للمحور الثَّالث في معركة الدفاع عن الكرامة .
ثالثا : قضيّة مُواجهة التّنظيمات الظَّلامية و الإرهابية التي تجْتَاحُ المنطقة و تُغرق البلدان العربيّة في مستنقع من الوحل و الدّماء . و هي حرب حقيقيّة تبدو مفتوحة على كلّ الإحتمالات، و تطرح مجموعة من الأسئلة المعقَّدة و الشَّائكة : هل يُمكن مواجهة الإرهاب دون عقد التّحالفات و التَّقاطع مع بعض القُوى و الأنظمة التي لا تؤمن حقّا بالحرية ؟ من هي القُوى الإقليميّة و الدوليّة الداعمة للإرهاب ؟ هل أنّ كلَّ من يحارب التنظيمات الإرهابيّة،حاليًّا، يسعى فعلًا للقضاء عليها ؟ أم أنّه يهدف من وراء "حربه" لإيجاد توازنات و نظام إقليمي يخدم مصالحه الجيوسياسيَّة ؟ أيُّ دور للقوى الثَّورية في هذه الحرب ؟ و هل تملك هذه القُوى، واقعيًّا، القدرة على تغيير موازين القوى في هذه الحرب . ربَّما لا نمتلك إجابات حاسمة على هذه الأسئلة ، لكنّنا حاسمون بشكل قاطع في أنَّه لا كرامة للعرب دون القضاء على هذه التَّنظيمات و التَّشكيلات المُعادية لكلّ ما راكمته الإنسانيّة من أشكال للحضارة و التَّمدُّن ، و أنّ من يُساندون الإرهاب ، مهمَا كانت تبريراتهم ، لا رهان عليهم .

خلال الثورة الفرنسية (1789) كانت قضيّة الحرية هي رُوحُها الخَفيّة ، و خلال الثورة البلشفية في روسيا القيصرية(1917) كانت العدالة الإجتماعيّة هي سبب ديناميّتها و حيويّتها ، و في زمن المدّ القومي في الستينات كانت مسألة الإستقلال الوطني و تحرير فلسطين محرِّكا رئيسًا لاستنهاض الجماهير العربيَّة . أمَّا اليوم ، فإنَّ كلّ هذه المعارك يجب خوضها مُتزامنة دون أسبقيّة إحداها على الأخرى من أجل أن نحيا مَرفوعي الرّؤوس في بلادنا العربيَّة التي يُحترم فيها الحذاء العسكري أكثر مِمَّا يُحترم الإنسان .
لَا كرامة لنا إن كنَّا فقراء ، و لا كرامة لنا إن كنَّا مُستعمرين ، و لا كرامة لنا إن كنَّا مَقْموعين .
 ------------
وائل بنجدو
جريدة الأخبار اللبنانيّة10 أوت 2016 






jeudi 4 août 2016

مُبادرات الحياة


في إحدى المَمْلكات الصَّغيرة و النَّائية، إنتظر وليُّ العهد بفارغ الصّبر وفاة والده ليرِث عنه المُلك. كان الأمل يحْذُوه، مع كلّ إنبلاجٍ لِفَجر يومٍ جديد، أَن يُفيق من نومه على بُشرى موت أبيه و إستلامه العرش. تَتالت السّنون سنةً تلو سنة و الرّجل يعيش على ذلك الأمل حتّى يئِس من نيل مُراده و الوصول لمُبتغاه بعد أن تجاوز عُمر والده المائة حَولًا. فأشار عليه مُستشاره، الذي يعتبره ذراعه الأيمن و المعروف بخبثه و دهائه الشّديدين، بأنّ الحلّ الوحيد أمامه هو قتل أبيه قبل أن يذهب عمره سدى و يضيع في الإنتظار. وافق وليّ العهد على إقتراح مستشاره و قتل أباه و إستقرَّت له أمور الحكم.
لكن المعضلة الكبرى التي واجهت الملك و مُستشَاره أنّ الحاكم الجديد قد أُصيب بمرض مُزمن و غريب بسبب تقدّمه في السّن، أجمع الأطبّاء أنّ لا شفاء منه، و هو "داء النَّوم". حيث كان الملك يُقضِّي أيّاما و ليالي و هو نائم حتّى تعتقد الرّعية أنّ ملكهم قد قضَى نحْبَهُ، فتعُمّ البلبلة أرجاء المملكة و تسُود الفوضى. لم يعجز المُستشار المُحنَّك عن إيجاد مخرج من هذه الورطة المُتواصلة: فكان، في كلّ مرّة يطول فيها نوم الملك، يُشِيعُ بين النّاس أنَّ مَلِيكَهم قد بَادَر بتغيير هذا الوزير أو ذاك، و أنّه بادر باتّخاذ قرار مَا في غاية الأهمية بهدف تحسين ظروف المعيشة في المملكة. كان المستشار يسمِّي هذه المُبادرات الملكيَّة: "مبادرات الحياة" لأنّها الوحيدة القادرة على إقناع النّاس أنّ الملك مايزال على قيد الحياة، و هي مُتنفّس المستشار و طوق نجاة الملك. و مع كلّ سبات جديد يدخل فيه الملك إلَّا و تطفو على السّطح مُبادرة جديدة من صُنع المستشار لتهدئة الأوضاع و إمتصاص حالة التّململ في صفوف الرّعيّة.
لكنّ صحّة الملك ساءت أكثر فأكثر مع مرور الزَّمن، و أصبحت فترات النوم التي تُلِمّ به متقاربة جدًّا، فوجد المستشار نفسه مُجبرًا على إجتراح مبادرات كثيرة في وقت وجيز ممَّا أرهق تفكيره و أَتلف أعصابه. فضَعُفت مبادراته و تقلّص تأثيرها في النّاس، و تسرّب خبر مرض الملك بداء النّوم فكثرت الإشاعات و ازدادت أوضاع المملكة سُوء.
و في إحدى المرّات دخل الملك الطَّاعن في السّن في سُباتٍ لم يسبق له مثيل، فسعى مُستشاره عبَثًا إيجاد مبادرة جديدة و متماسكة لاستعادة السّيطرة على الأوضاع التي لم يعد يحكمها أيّ منطق. و لم تَجُد قريحة المستشار المُنهك بأيّ مبادرة تُنقذه و تنقذ الملك الذي يغُطّ في نومه العميق غير واع بما آلت إليه الأوضاع من تأزّم. لقد إستنفذ المسكين كل أفكاره و مبادراته خلال فترات نوم الملك السّابقة.
طال إنتظار النّاس لمبادرة جديدة أو خبر يقين يأتي من القصر لكن دون فائدة، فإستبدّ الشّك و الغضب بهم. و تجمهر الرعية حول القصر و حاصروه و تعالت الأصوات دون إنتظام:
ــ أين الملك...؟
ــ لماذا لم يُقدّم الملك أيّ مبادرة منذ مدّة طويلة...؟
ــ ربّما مات الملك...
و بينما كانت الرّعية على تلك الحال من الفوضى و الإحتجاج حتى دفع أحدهم بوّابة القصر و هتف قائلا و هو يُشير بيده إلى داخل القصر: " الشّعب يريد إيقاظ الملك." فتبعه الناس إلى الداخل و هم يُردّدون وراءه " الشعب يريد إيقاظ الملك". إقتحم جمْعٌ غفيرٌ منهم غرفة نوم الملك فوجدوه مُمدّدا دونما حراك، فتوهَّمُوا خطأً أنّ الملك قد مات. حملوه على الأكتاف إلى أن وصلوا المقبرة و دفنوه. و بعد الإنتهاء من الجنازة و الدّفن بدأ بعضهم بالتّفكير و التّساؤل:" كيف سنعيش بدون مُبادَرات؟"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قَد يتساءل بعض القرّاء عن السّبب الذي يقف وراء توظيف أساليب الإيحاء         و الرّموز و السخرية في هذه القصّة القصيرة . أجيبكم، أيّها القرّاء الأعزّاء، أنّنا نعيش في زمن "الإنتقال الدّيمقراطي" الذي يحقّ فيه للكاتب الحديث بصفة مباشرة لكن و لأنّ فترة الإنتقال قد طالت أكثر ممّا طال نوم الملك في القصّة أعلاه، فلقد خَيّرت أن أُبادِر بدوري باجْتِراح أسلوب جديد مثلما إجترح المستشار مبادراته.
أليس هذا زمن المبادرات الكثيرة في زمن الإنتقال الديمقراطي الطويل، فلماذا أحرم نفسي من حقّي في المُبادرة !؟

بقلم وائل بنجدو

جريدة آخر خبر، العدد 203،الثلاثاء 2 أوت 2016