vendredi 20 novembre 2015

تونس : عن الصراع داخل الحزب الحاكم و تداعياته


تَفتح الثَّورات الكبرى أفقًا رحبًا لتغييرات جذريَّة على كافَّة الصُّعد الإقتصاديّة و الإجتماعيّة و السّياسيّة . و تخُوض قوَى الثَّورة قبل و بعد إستيلائها على السُّلطة صراعًا مُضنيًا و قاسيًا للقضاء على البنيان الإجتماعي القديم و لتقليص نفوذ و تأثير القُوى المُضادَّة للثَّورة في كلّ المواقع داخل المجتمع و الدّولة. و في خضمّ مسار الهدم/البناء هذا تنتشر أخبار إنتصارات الثّورة ، فتُصَوَّب أبصار أصدقائها و أعدائها في العالم و داخل البلد المَعْنيّ لقرارات كبرى و مشاريع إقتصادية و إجتماعية قصيرة و بعيدة المدى مثل قوانين للإصلاح الزّراعي و تأميم لقطاعات إستراتيجيّة و رصد إعتمادات ماليَّة هامَّة لتطوير البنية التَّحتيّة و بناء المؤسّسات و المصانع و مراجعة موقع البلد في خارطة السّياسة الدّوليّة و تحالفتها بما يعود بالنّفع و الفائدة على الجماهير الثَّائرة.
يحدُث كلّ هذا إذا حدثت الثَّورة.
لكن الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام في هذه الفترة عن تونس ، التي من المُفترض أنّها تعيش على وَقْع ما أجمع كثيرون على توصيفه بالثّورة ، هي أخبار مُغايرة تمامًا لما يَتَنَاهى لمسامع العالم عن الثّورات. و هي تتركّز أساسًا على الصّراع القائم داخل الحزب الحاكم "نداء تونس". و لا يعني ذلك أنَّ الإعلام العالمي يتعمّد تجاهل إنجازات الحزب الحاكم أو أنَّه يعمل بخبثٍ على إلقاء الضّوء على ما هو هامشي ، إذْ لا يملك حزب حركة نداء تونس ما يُقدّمه للنّاس و ما يُسوِّقه للعالم عن نفسه غير صراعاته الدّاخليّة . فبعد أكثر من عام على فوزه في الإنتخابات البرلمانيَّة و إعتلائه سدّة الحُكم مع بقيّة شركائه خاصَّة حركة النَّهضة الإسلاميَّة ، لم يتحقَّق شيء من الوعود الإنتخابيَّة ، و لا يبدو أنَّ الإئتلاف الرّباعي الحاكم يملك أيّ رؤية لإنقاذ تونس من الأزمة التي باتت تحاصرها على كلّ المُستويات . بل إنّ الحكومة و الأحزاب الدّاعمة لها تسير بسرعة كبيرة بالبلاد نحو القَاع من خلال حزمة القوانين الإقتصاديَّة التي صادقت عليها أو تعتزم المصادقة عليها ( قانون المصالحة الإقتصادية، قانون الشراكة بين القطاع العام و الخاصّ ، رهن بعض المنشآت العموميّة ، قانون الميزانية لسنة 2016، الترفيع في سن التّقاعد ، قانون الشَّراكة الشاملة مع التّحاد الأوروبي...). حيث تهدف كلّ هذه القوانين ذات الطابع الليبيرالي إلى مزيد ربط الإقتصاد التونسي بالرّأسمال العالمي ، و فتح الأبواب على مصراعيْها أمام المصالح الإقتصادية للمراكز الرّأسمالية الكبرى في العالم خاصَّة أوروبا و الولايات المتّحدة الأمريكية . يحْضى هذا التّوجّه بدعم و مباركة من كلّ القوى اليمينيَّة المُسيطرة على مجلس نواب الشّعب. و رغم ما يبدو في هذه الفترة من صراع بين جناحَيْ حزب "نداء تونس" ( جناح حافظ قايد السّبسي و جناح محسن مرزوق) و قياداته فإنّ الجميع يقف على نفس الأرضيّة الليبيراليّة ، و يُجمعون على برنامج إقتصادي و إجتماعي عنوانه الرّئيس "الإنحياز لرأس المال على حساب الطّبقات الشعبية".
إنّ هذا الصّراع ، الذي وصل حد تقديم 32 نائب من نُوَّاب حزب "حركة نداء تونس" إستقالتهم من الكتلة البرلمانية للحزب قبل تعليقها بعد أيَّام ، لا يَعدو كونه صراع على المواقع في المُؤتمر القادم للحزب خاصّةً أنّه يضمّ في صفوفه كوكبةً من الوُصُوليّين و الإنتهازيّين . و لا علاقة له ، من بعيد أو قريب ، بالصّراعات المَبدئية التي قد تعيشها كلّ الأحزاب الديمقراطية . لا علاقة لهذا الصّراع بما تعانيه البلاد و لا علاقة للبلاد بأجنحة الصراع و رموزه ، فكلّهم حاملون لمشروع سياسي و إقتصادي سيساهم في مزيد تأزيم الأوضاع . و من النقاط التي يجب الوقوف عندها هي الأساليب المُعتمدة في هذا الصراع ، حيث لم يجد أحد شقَّي هذا الصراع حرجا في الإستنجاد بالعِصيّ و الهراوات لفرض سياسة الأمر الواقع و منع إنعقاد إجتماع المكتب التنفيذي للحزب بالقوّة . فهل أنّ حزبا حاكما يعتمد العنف لحسم خلافاته الدّاخلية هو حزب ديمقراطي و مدني مثلما يدّعي ؟ أليس هذا هو أسلوب الميليشيات ؟ و إذا كان هذا هو الأسلوب المعتمد لحسم الخلافات الدّاخلية ، فكيف سيكون الحال مع قوى المُعارضة ؟
رغم كلّ المبادرات التي تتقدّم بها أطراف من داخل "نداء تونس" لتقريب وجهات النّظر و النداءات المُتعدّدة ليكون للرئيس "الباجي قايد السبسي" الكلمة الفصل لحسم هذا الصّراع ، فإنَّه بات من الصّعب أن تعود وضعيّة الحزب إلى ما كانت عليه قبل إنتخابات 2014. و هو ما سيكون له تداعيات على توازنات المشهد السّياسي الحالي و في المحطّات السّياسيّة القادمة . و من الطّبيعي جدّا بل من الواجب أن تسعى القوى الوطنيّة و التّقدميّة للإستفادة من الصّراعات و التّناقضات في صفوف الرّجعيّة الحاكمة . لكنّ إستفادة القوى اليسارية من هذا الإنقسام ليست حتميّة لأنّه في حالة حصل خلط للأوراق فسيتصدّر الحزب الأكثر تماسكًا و وحدة و جماهيريّة مسرح الأحداث . و هو ما تتميّز به ، نسبيًّا ، حركة النّهضة الإسلاميّة ، الوجه الآخر للرجعيّة، عن غيرها من الأحزاب. حيث أنّها تتجنّب أن تتصدّر مشهد الحُكم رغم مشاركتها فيه حتّى لا تتحمّل أعباء هذه الفترة و نتائجها التي يبدو أنّها ستُضعِف من شعبيّة حزب حركة نداء تونس . و بالتّالي ترجيح فرضيّة فوز الإسلاميّين بالإنتخابات البلديّة القادمة و ربّما في حالة إجراء إنتخابات برلمانية مُبكّرة ، خاصّة و أنّ القوّة اليساريّة الأكثر تأثيرًا و هي الجبهة الشَّعبيّة لم تضع خطّة واضحة لاستثمار و تأطير الحركات الإحتجاجية المُتوقّع إندلاعها بالنَّظر للظّروف الإقتصادية و الإجتماعيّة الخانقة التي تعيش فيها الأغلبيّة السّاحقة من الشّعب التّونسي ، كما لم تركّز الجبهة هياكل قادرة على إستيعاب المُتَغيِّرات السياسية المُحتملة و مختلف الفئات و الطبقات الشعبيّة.
حين تجري سُيُول الثّورات في عروق الأوطان و أوصالها فإنّها تُزيح من أمامها الأسباب التي أدّت إلى إندلاعها ، و تقتلع كل الشّوائب التي تعرقل حركة التّقدّم . لكن تونس اليوم تغرق يومًا بعد يوم في مستنقع لا نجاة منه إلّا بثورة حقيقية تُحدث التّغيير الذي من أجله إنتفض أهالي محافظة سيدي بوزيد ذات شتاء من سنة 2010، أهالي سيدي بوزيد الذين قدّموا الشهداء ضدّ الإحتلال الفرنسي و في عهد حكم "بورقيبة" و في عهد "بن علي" و في عهد حكم حركة النّهضة ثمّ في عهد التّوافق بين "نداء تونس" و "حركة النهضة" و لم تقدّم لهم هذه الدّولة غير الوعود و السّراب.
-----------------------
بقلم وائل بنجدو

mercredi 21 octobre 2015

مُعارضة... لكنَّها إرهابيّة وأميركيّة


غالبيَّة الأصوات التي ترتفع اليوم رافضةً التَّدخّل العسكري الرّوسي في سوريا لم تَكُن عاليةً بنفس الدَّرجة ، أو ربّما كانت غائبةً ، إزاء جلّ التّدخّلات الأجنبيّة العُدوانيّة في سوريا و ضدّها منذ أربع سنوات و نَيّف . و من أبرز هذه التّدخّلات عربدة طائرات العدوّ الصّهيوني في الأجواء السُّوريّة و قصفها لمواقع للجيش السُّوري في عدّة مناسبات و التي كانت أهمّها إعتداء القُنيطرة التي ردّ عليها حزب الله . أمَّا المحطّة الأخرى في مسار الحرب في سوريا ، التي أسقطت القناع عن هؤلاء ، فكانت سنة 2013 حين إقتربت البوارج الأمريكيَّة من سواحل سوريّة و هدّدت الولايات المتّحدة الأمريكيّة بعمليَّة عسكريّة واسعة لإسقاط النّظام بعد إتّهامه باستعماله الأسلحة الكيمياويّة في حلب . حينها أكل القطّ ألسنة كلّ هؤلاء و لم ينبسُوا ببنت شفة ، و كانت قلوبهم تخفق بسرعة فرحًا ب"المُخلّض الأمريكي". و لم يكتفُوا فقط بغضّ الطرف و إلتزام الصّمت بل إنَّ من بينهم من كان يلعَقُ الأحذية لدكّ دمشق مثل الإئتلاف اللاّوطني السّوري و حركة الإخوان المسلمين التي دعت بكلّ سفاقة ل"الجهاد ضدّ الرّوس الكفَّار".
حين قرّر التحالف الدولي بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة البدأ في توجيه ضربات جويّة ضدّ داعش كان ذلك رئيسًا لاحتواء تمدّد التّنظيم الذي يُهدّد مصالحها خاصّةً في إقليم كردستان العراق ، و لم يكن الهدف القضاء على هذا التّنظيم . ثمّ تحوّل "القصف" الأمريكي في مرّات عديدة لعاملٍ مساعد من خلال تزويد المسلّحين بالذخيرة و العتاد.
التدخّل الرّوسي يختلف جذريّا عن تدخّل التحالف الدولي . أوّلا لأنّ الضَّربات الجوية الرّوسية دقيقة للغاية ، و تتجلّى فعاليّتها في التّقدم الميداني الذي يُحرزه الجيش السوري . و ثانيًا لأنّها لا تميّز بين التّنظيمات الإرهابيّة على عكس ضربات التحالف التي كانت أقرب للإستعراض منها للحرب على الإرهاب و إستَثنت عدّة تنظيمات إرهابيّة من قائمة بنك أهدافها . لهذه الأسباب تثُور ثائرة المعارضات اللاّوطنية المُرتبطة بالإمبريالية الأمريكية ، ذلك أنّ كلّ قصف يطَال إحدى مواقع الإرهابيين هو في الحقيقة قصفٌ يطَال أيضًا القوى السياسية التي تتّخِذ من التّنظيمات الإرهابيّة وسيلتها الميدانيّة لفرض صيغة لوقف الحرب تتماشى و تصوّراتها و تصوّرات الرّاعين الغربيين لها . إنّ هذا النّوع من المعارضة ، الذي يراهن على الوصول للحكم على ظهر الدبّابة الأمريكيّة ، هو جزء من الأزمة في سوريا و التّصدي لها لا يقلّ أهمّية عن التصدي للإرهاب . بل يمكن القول أنّ الحرب التي بدأت تأخذ نسقا هجوميّا من جانب الجيش السوري على الأرض بعد التّدخّل الرّوسي هي في الحقيقة حربٌ ضدّ الإرهابيين و حربٌ ضدّ السياسيين الذين يُندّدون بالإرهاب علنًا و ينسّقون معه سرًّا ، حيث أنّ هذه التَّنظيمات الإرهابيّة هي الأدوات الميدانيّة و ورقة الضّغط الوحيدة بيدها نظرا لكونها لا تملك إمتدادًا شعبيًّا في الوقت الحالي.
الولايات المتّحدة الأمريكيّة ستَعمل جاهدةً ليكون لهذه المعارضة العميلة دور هامّ في التّسوية السياسية المُرتقبة لما بعد الحرب ، و ستفاوض روسيا على هذا الأساس . سواءً كان للرئيس بشّار الأسد دورٌ في المرحلة الإنتقالية أم لم يكُن ، فإنّ مهمّة إختراق النّظام السّوري مَوْكُولةٌ بشكل رئيس لهذه المعارضة العميلة و لجماعات الإسلام السّياسي وليس عبر منصب رئاسة الجمهوريّة لسببين رئيسيّين : أوَّلا لأنّه لا يوجد إجماعٌ داخل فصائل هذه المعارضة على شخصيّة يُمكن الرّهان عليها ، و ثانيًا لأنّ روسيا لن تسمح بهذا الإختراق الذي يعني فقدان حليف إستراتيجي في المنطقة.
إنَّ مواجهة الإرهابيّين في ساحة القتال تتطلّب حسمًا بنفس الدّرجة في التّعامل مع المُعارضة التي توظِّف الإرهاب في ميدان السّياسة و التّفاوض . و إنَّ كلّ القوى السّياسيّة ، التي لا تعتبر وقف الحرب في سوريا عبر القضاء على الإرهاب هي الأولويَّة المُطلقة في هذه المرحلة ، هي جزء لا يتَجزّأ من تدمير البلد و المنطقة سواء عن حسن نيّة أو سوء نيَّة ، و لا يُمكن أن تكون قوّة للبناء في سوريا مُستقبلاً.
إنَّها مرحلة الحسم العسكري فلتتوضّح منها كلّ المواقف : إمّا مع إنهاء الحرب و المأساة السُّورية أو مع إدَامَتها.

----------------
وائل بنجدو 
http://www.al-binaa.com/?article=74506
جريدة البناء : 20/10/2015

samedi 10 octobre 2015

التّدخّل الرّوسي : جولة الضّرورة قبل تسوية الضّرورة



إنّ مفهوم الإمبريالية هو مفهوم إقتصادي بالأساس يحدّده تملّك الدولة المعنية للإحتكارات ، فليس تدخّل روسيا العسكري في سوريا هو ما سيثبت طابعها الإمبريالي أو ينفيه . كثيرة هي الدول التي تدخلت عسكريا في بلدان أخرى و شنّت عمليّات عسكريّة خارج مجال حدودها الجغرافي بينما هي مَحْكُومة مِن أنظمة تابعة أو إشتراكية أو وطنية مثل مصر في عهد عبد الناصر أو الإتحاد السوفياتي أو السعودية...

فهل تتحول هذه الدول لدول إمبريالية بمجرّد تدخلها عسكريا في بلد آخر ؟!

خمسة إحتكارات كبرى تتسَيَّد بها الإمبريالية الأمريكية و حلفاؤها (أوروبا و اليابان) العالم ، و تمسك من خلالها بأَعِنَّةَ الإقتصاد العالمي و هي :السيطرة على الثروات الطبيعية ، أسلحة الدمار الشامل ، الإعلام و البروبغندا ، وسائل الإتّصال و التكنولوجيا ، و النظام النقدي العالمي عبر بعض المؤسسات الماليه اهمها صندوق النقد الدولي و البنك العالمي. كذلك هناك عوامل أخرى تجعل للولايات المتحدة قدرة شاملة على السيطرة وهي هيمنتها عل البحار و المحيطات و غزو القطبين و الاكتشافات السريعة للفضاء التي لا نعرف ماذا تُخبِّئ للولايات المتّحدة الأمريكيّة و للإنسانيّة.
إن الصين و روسيا و هما قوّتان "فوق إقليمية و ما دون كونية" وهما دولتان صاعدتان (والصّعود هو مفهوم إقتصادي) و خاصّة الصين. و لا ينطبق عليهما وصف الدول الإمبريالية لأنّهما لا تساهمان في تلك الإحتكارات الخمسة الكبرى ، بل تسعيان حثيثًا للتّحرر منهم و فكّ الإرتباط معهم.
إنّ الموقف من التدخل الروسي لا يَجب أن ينطلق من توصيف غير دقيق لطبيعة الدّولة الرّوسية و إقتصادها ، بل يجب أن ينطلق من المعطيات الميدانية و تحديد الأولويات  التي تتمثل حاليا في: القضاء على الإرهاب و وقف الحرب مع الحفاظ على وحدة سوريا .فالإجابة عن سؤال كيف نريد شكل سوريا بعد الحرب و الإمكانيّات المُتاحة لذلك هي المحدّد الرئيس للموقف من التدخل . لقد باَتَت كلّ الأطراف المتصارعة في سوريا مُتّفقة على ضرورة إنهاء الحرب ( و إن لم يصرِّح الجميع بذلك ) لسببين رئيسيّيْن الأوّل هو صعوبة حسمها بالقوّة العسكريّة و الثّاني خطر الإرهاب الذي أضحى يهدّد الجميع حتّى من ساهم في صناعته مثل تركيا و السّعوديّة.لكنّ الأطراف الإقليمية و الدّوليّة التي تتقدّم باتجاه "تسوية الضّرورة" ليست متّفقة على أولويات الحلّ السياسي التي ذكرناها في بداية المقال وعلى طبيعة المرحلة الإنتقالية التي تُعتبر عِماد الشكل الذي ستكون عليه سوريا ما بعد الحرب .هذا الحل السياسي ستُرسم ملامحه في الميدان و وِفْق تطوّرات الأوضاع الميدانية و تغيير موازين القُوى . و سَيُحاول كلّ محور من المحاور الرّئيسة الثّلاثة في المنطقة : قطر تركيا ــ السّعودية الإمارات الأردن ـــ سوريا إيران ( تمثّل الولايات المتّحدة مرجعا للمحورين الأوّلين و ضابط إيقاع للتّنافس بينهما ، و تمثّل روسيا الحليف الأهم لسوريا و إيران ) تحقيق إنتصارات عسكريّة و تقدّم ميداني قبل جلوسه على طاولة المفاوضات التي يبدو أنّه لا مفرّ منها بالنّسبة للجميع . فَفِي هذه الوضعية شديدة السّيولة ـــ التي يزداد فيها إحتمال أن تأتي النتائج بعكس المُتوقّع لكل القوى الإقليمية المأثرة في المنطقة(تركيا ، إسرائيل ، السّعوديّة ، إيران ) و من ورائها القوى الدولية سواء كانت الإمبرياليه الأمريكية أو البلدان الصاعدة التي تضع الهيمنة الأمريكية موضع تساؤل(روسيا،الصين) ـــ سيرفع الجميع شعار التسويات و التّفاوض . لكن قبل ذلك لابدّ من جولة الرّبع ساعة الأخير التي يلعب فيها كلّ طرف أوراقه الأخيرة و بكلّ قوّة ليتمكّن من فرض تصوّره على مائدة المفاوضات المُقبلة ، لذلك من المرجّح أن تتصاعد وتيرة العمليات العسكريّة في الفترة القصيرة المقبلة ، فالإتّفاقات السّياسية الحاسمة و طبيعة الهدنة تصنعها قبل و بعد كلّ شيء الصراعات العسكرية و نتائجها في ساحة الحرب.
روسيا تُدرك ذلك جيّدا لذلك إختارت بعناية توقيت البدء في عمليّتها العسكريّة لتُقلِّص من نفوذ الإرهابيين والمعارضة المسلحة التي تدربها الولايات المتحدة . و هي تتبنَّى تصَوُّرًا يحافظ على وحدة سوريا و يُحَاصِر الإسلاميّين الإرهابيِّين الذين تنظر لهم روسيا دائما بعين الرّيبة و الحذر لاعتبارات تاريخيّة تعود لصراع الإتحاد السّوفياتي معهم في أفغانستان ، و لاعتبارات تتعلّق بما يمثّلونه من تهديد لا يتوقّف على روسيا الإتحادية في منطقة القوقاز . هذا التّصور يقف حتما في مواجهة الرّؤية الأمريكية و الغربيّة عموما التي طالما راهنت على الإسلام السّياسي كإحدى القوى الرّاعية لمصالحهم في عدّة مناطق من العالم ، و ذلك منذ نشأة تنظيم الإخوان المسلمين، سنة 1928 بدعم من السّفارة البريطانيّة في مصر ، الذي خرجت من رحمه أغلب التّنظيمات الإرهابيّة في المنطقة. يقوم التّصور الأمريكي للحل ، أو لِلّاحَل ، في سوريا على إعادة تجربة الإنتقال في العراق التي قادها "بول بريمر" بعد إحتلال عام 2003 . و هي العمليّة التي أنتجت العراق الذي نعرفه و لا نعرفه . و بما أنّ التدخّل العسكري الرّوسي سَيُضعف الأدوات العمليّة و الميدانيَّة للإمبرياليّة الأمريكيّة من مختلف التنظيمات الإرهابيّة ، التي تساعد في فرض هذا الواقع حين يجلس الجميع على مائدة المفاوضات ، ، فإنّ هذا التّدخّل سيكون له فائدة سياسيّة في مرحلة ما بعد الحرب التي تُصوَّبُ كلّ الأبصار إليها حاليًّا .إنها جولة 
الضرورة قبل تسوية الضرورة.

----------
جريدة البناء"
 "العدد:1902 تاريخ:08/10/2015 

وائل بنجدّو

mardi 29 septembre 2015

الرّد يبدأ من فلسطين


في مثل هذه الأيام و منذ 15 عاما إندلعت الإنتفاضة الفلسطينية الثّانية، و إنتشرت صورة إستشهاد الطّفل محمّد الدّرة،التي فتحت أعين جيل عربي بأسره عن معنى فلسطين ، لتكون شاهدا على وحشيّة العدو الصّهيوني و تواطئ الأنظمة العربيّة العميلة مع هذا العدوّ . اليوم يلجأ زعيم التّنسيق الأمني مع الإحتلال محمود عبّاس لكلّ الوسائل لمنع إندلاع إنتفاضة ثالثة تعيد القضيّة الفلسطينية لواجهة الأحداث و تحرّك المياه الرّاكدة فيها منذ سنوات. و من مفارقات زمن الرّدّة أنّ «أبو مازن» سيلقي خطابه في الأمم المتّحدة في ذكرى إستشهاد رمز الإنتفاضة محمّد الدّرة ، لكنه فضّل عوض إسترجاع ذكراه و ذكرى الآلاف ، الذين أستشهدوا في مسيرة مقاومة الإحتلال،أَن يُطَمئن العدوّ بأن خطابه سيكون" تصعيد في الخطاب لا تصعيد في القرارات
إنّ محمود عباس و عصابته تشكّل عبئا حقيقيّا على مشروع تحرير فلسطين ، و النّضال ضدّ الكيان الصهيوني لا يمكن فصله عن النضال ضد هذه السّلطة وكما قال الشهيد غسّان كنفاني "إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغيرالقضية". و يمكن في هذه الذّكرى التشديد على نقطة في غاية الأهمية وهي العدد الكبير من الشباب التونسي و العربي الذين أقبلوا على النضال السّياسي من بوّابة فلسطين.
إنّ إندلاع الإنتفاضة الثالثة ، التي تختمر حاليًّا في أحشاء التراب الفسلطيني ، سيعيد ترتيب أولويات عديد القوى السّياسية و سيسقط قناع الوطنية عن الكثيرين ، كما سيساهم في تراجع الخطاب الطّائفي ليترك مكانه لخطاب عروبي و يساري و وحدوي متجاوز للتَّقسيمات العموديه للمجتمعات العربية التي تهدد وحدتها ضدّ أعدائها .
يجب أن تبقى فلسطين دائما في أعلى سُلّم أولويّات القوى اليساريّة و الإشتراكيّة لأنّ نهوض الجماهير الفلسطينية سيكون له إنعكاسات إيجابية على كل المنطقة و على الوضع الدّولي في العموم .

------------
وائل بنجدو

mercredi 1 juillet 2015

تونس: المواجهة الكاذبة للإرهاب

مرّة أخرى تمتزج زُرقة مياه البحر المتوسّط بلون الدم الأحمر المسفوح على شواطئه؛ فبعد مذبحة العمال المصريين على شواطئ ليبيا، جاء الدور على شواطئ تونس. الطقس المُشمس واللطيف في ساحل مدينة سوسة استحال فجأة عاصفة مجنونة من الرصاص، في عملية إرهابية جديدة هزّت تونس، بعد أقلّ من أربعة أشهر على عملية باردو.
وهكذا هو عدَّاد شهداء العمليات الإرهابية يأبى التوقّف منذ 5 سنوات، ليكون شاهداً من ناحية على فشل الحكومات المتعاقبة منذ سقوط الرئيس زين العابدين بن علي في مواجهة الإرهاب (هذا إذا افترضنا أنها غير متورِّطة في دعم الإرهابيين أو بالتواطؤ)، ومن ناحية أخرى على حجم الخطر المحدق بالبلاد وبالوطن العربي بصفة عامّة.

لم يكن من الصعب توقُّع أنّ المناطق السياحية والحانات والملاهي الليليّة وأحياء اليهود في مدينة جربة مثّلت، وستمثّل مستقبلاً، أهدافاً محتملة لهجمات الإرهابيين. ولم يكن صعباً أيضاً توقع عمليات إرهابية في شهر رمضان الذي يعتبره الإرهابيون شهرهم «المفضّل»، إذ يتضاعف فيه «أجر الجهاد»، على غرار ما حصل في رمضان 2013 و2014.
إذا غابت هذه القراءة الاستباقية البسيطة فتلك مصيبة. ومن باب الإنصاف، فقد توقَّعت الحكومة هجمات إرهابية في هذا التوقيت، لكنها لم تتخذ إجراءات تتوافق وحجم التهديدات، فجعلت من المصيبة مصيبتين.
وبعد كل عملية إرهابية تمتلئ وسائل الإعلام بضجيج المحلّلين وبتصريحات المسؤولين المندِّدة والمتوعّدة، والتي تعلن «الحرب على الإرهاب». لكن حربهم هذه يبدو أنها حرب كلاميَّة وليست ميدانيّة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إذ كيف يمكن تصديق حكومة تدّعي مواجهة الإرهاب في حين أنّها تسمح لحزب التحرير الإسلامي بالنشاط القانوني، والحال أنّه حزب يؤمن بالخلافة الإسلامية ويرفع الرّاية السوداء عوض الراية الوطنية، ويعتبر الديموقراطية كفراً وبدعة غربية؟ وكيف يمكن تصديق هذه الحكومة التي تغضّ بصرها عن بعض المساجد التي يسيطر عليها السلفيّون التكفيريون وبعض الأحزاب الإسلامية؟
ليس كل من يدّعي مواجهة الإرهاب صادقاً في دعواه، وفي ما يلي أمثلة عن بعض هؤلاء الذين لا ينبغي الوثوق بهم، أو السير إلى جانبهم في معركة مواجهة الزحف الأسود:
*كاذِبٌ من يتناول ظاهرة الإرهاب بالتحليل ويتغاضى عن توظيف الإمبرياليّة ودعمها لها، منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين سنة 1928 بدعم من السفارة البريطانية (وهي التنظيم الأم لأغلب التنظيمات والقيادات الإرهابية في تاريخ الوطن العربي الحديث) حتّى يوم الناس هذا.
*كاذِبٌ من يُندِّد بالإرهاب في تونس ويتعامل معه أو يدعمه في ليبيا والعراق وسوريا، فالمعركة واحدة لا تتجزّأ (دعت بعض قيادات حركة النهضة الإسلامية سابقاً إلى الجهاد في سوريا).
*كاذِبٌ من يتحدث عن الإرهاب ويغضّ الطرف عن القوى الإقليمية التي تدعمه فكرياً وماديّاً.
*كاذبٌ من يتشدّق، من جهة، بعدائه للإرهاب ويتحالف، من جهة أخرى، مع الإسلام السياسي الذي يُعتبر القاعدة الفكرية والنظرية للإرهاب. فمن قال إن بالإمكان جمع الشاة والذئب داخل نفس الزريبة؟
*كاذِبٌ من يستغلّ كل عملية إرهابية لتجريم الاحتجاج الاجتماعي ويجد فيها فرصة للنيل من الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يخوض معارك نقابيّة مهمّة منذ فترة لتحسين الظروف الاقتصادية.
*كاذِبٌ من يدّعي مواجهة الإرهاب ويتبنّى برنامجاً اقتصادياً ليبرالياً لا يساهم إلاّ في مزيد من الإفقار (وتلك هي طبيعة البرنامج الاقتصادي لحكومة الحبيب الصيد ومكوّنيها الرئيسيَّين حركة نداء تونس وحركة النهضة)، فيفتح، بذلك الواقع البائس، الباب على مصراعيه للتفكير بطريقة بائسة والارتداد للفكر الديني والتطرّف.
*كاذِبٌ من لا يُعير الجبهة الثقافيّة الأهمّية اللازمة في المعركة ضدّ التيارات الظلامية وإرهابها؛ فعلى سبيل المثال، قامت السلطة بإغلاق فضاء «مسار الثقافي»، وهو أحد الفضاءات (المساحات) الثقافية التقدمية في أحد الأحياء الشعبية في تونس العاصمة، بينما لم تحرّك ساكناً إزاء الجمعيات الإسلامية المشبوهة التي تشكّل أحد مداخل استقطاب و«دمغجة» أبناء الضواحي.
لا تنفكّ الحكومة والأحزاب الحاكمة تُردّد أنّ الحرب على الإرهاب حرب طويلة الأمد. وستكون فعلاً أطول ممّا نعتقد إذا بقيت قيادة المعركة بيد اليمين، بشقّيه الليبرالي والديني، الذي يبدو أنّه غير صادق في مواجهته للإرهاب. فإذا أردنا أن نُوقف عدّاد الشهداء ونُشغِّل عدّاد الأعداء، فعلى القوى الثورية واليساريَّة أن تتسلّم قيادة هذه المعركة وغيرها من المعارك الوطنيّة والديموقراطيّة.

"الأخبارــ العدد ٢٦٢٨ الثلاثاء ٣٠ حزيران ٢٠١٥ "

jeudi 12 mars 2015

تونس في قبضة اليمين


أغلب الانتفاضات التي عاشتها تونس منذ خروج الاستعمار الفرنسي عام 1956 كان محرِّكها الرئيس الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي تعانيها الطبقات الشعبية والارتفاع المُطّرد لنسبة البطالة. انتفاضة 17 ديسمبر التي أسقطت سلطة بن علي وغيّرت وجه المنطقة، لم تخرج عن هذه القاعدة. ورغم أنّ كل المُؤشِّرات الاقتصادية والسياسية كانت تُنبِئ بانفجار شعبي كبير، بخاصّة بعد انتفاضة الحوض المنجمي عام 2008، فإنّ السلطة واصلت سياسة الإفقار، فحكمت على نفسها بالإعدام.
اليوم وبعد 4 سنوات على الإطاحة بسلطة «بن علي» المافيوية فإنَّ الظروف القاسية التي كانت تعاني منها الطبقات الشعبية في السابق لم تتغيّر، بل هي في تدهور مستمر وسريع. ولا تزال الأسباب التي أدّت إلى إندلاع الاحتجاجات في 17 ديسمبر 2010 بمحافظة سيدي بوزيد قائمة بوضوح وحدّة، وبالتالي فإن فرضية عودة الناس إلى التمرّد والانتفاض ما زالت قائمة وبقوة.
عن الوضع الاجتماعي في تونس
إذا استمعنا لنبض الناس وابتعدنا عن المُماحكات السياسية التي لا طائل منها، فإنّه لن يصعب علينا اكتشاف حقيقة الوضع الذي تعانيه الجماهير الشعبية من دون تزوير أو تضليل. ففي كلّ زاوية من هذا الوطن هناك من يتذمر، رُكاب الحافلات والقطارات وروّاد المقاهي والعمال في مصانعهم والطلبة في جامعاتهم... الغالبية الساحقة غير راضية عن وضعها الاقتصادي والاجتماعي.
وحتى الطبقة الوسطى اهترأت بشكل غير مسبوق والتحقت برَكب المُتَأفِّفين من «صعوبة الحياة»، ولم تعُد قادرة على مواجهة التكاليف الباهظة في شتى مناحي الحياة. وتؤكِّد الأرقام الرسمية وغير الرسمية هذه الوضعية المأساوية، حيث أنّ رُبع الشعب التونسي هم من الفقراء (بلغت نسبة الفقر حسب وزارة الشؤون الاجماعية 24% عام 2014).
أمّا البطالة فهي السرطان الذي ينخُر جسد البلاد وقد أصبحت الجامعة التونسية التي من المفترض أن تكون مصنعاً للكوادر والأدمغة، فضاء لتخريج العاطلين من العمل (وصلت نسبة البطالة إلى 23 % وفق تقديرات الاتحاد العام التونسي للشغل). ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ بل إنَّ هذه الفئات والطبقات إضافة إلى أنّها في رحلة بحث متواصل عن العمل ولهث مستمر وراء لقمة العيش، فإنّها مُهدَّدة دائماً بأن تجد نفسها في الشارع بلا مأوى، ذلك أنّ 30% من التونسيين ليست لديهم الإمكانات للحصول على مسكن (وفق دراسة قام بها مختصّون في الاقتصاد بتكليف من وزارة التجهيز عام 2014).
هذه لمحة بسيطة عن المُنْحدر الذي تتدحرج فيه البلاد وإذا واصلنا تعداد المشاكل قد لا نتوقف. ومن الطبيعي جداً إزاء هذه الأرقام والمعطيات أن تتفاقم الأمراض الاجتماعية من إدمان وعنف ورشوة، وأن تنتشر الجريمة التي بلغت نسبتها 350 جريمة يومياً (إحصائيات وزارة الداخلية لعام 2014). ومن المنطقي أيضاً أن تُعشِّش فكرة «الحلم الأوروبي» في رؤوس الشباب الذين يروْن أمامهم مستقبلاً بِلا أمل. فيكونون ضحايا لقوارب الموت أو للتنظيمات الإرهابية التي تحوّلهم لأدوات تخوض من خلالهم حرباً بالوكالة في الوطن العربي.
إنّ تونس تتألّم والأمراض تنخُر جسدها في كلّ موضع، والجسد إذا مرض تردّ خلاياه الفعل وتدافع عن وجودها. تونس ستقاوم أمراضها فالنتيجة واضحة: لن يستسلم الفقراء لفقرهم.
الحكومة الجديدة... حكومة يمينية رجعية
الوضعية الكارثية التي تلمَّسْنا بعض ملامحها في الفقرة السابقة لم تكن من أولويات رئيس الحكومة المكلّف الحبيب الصِّيد حين كان بصدد البحث عن طاقم حكومي يمكن له أن ينال ثقة مجلس النواب. حيث لم يكن هناك نقاش برامج وتصورات حلول ممكنة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، بل كانت المفاوضات التي قادها مع مُختلف الأحزاب عبارة عن تسويات وترضيات وصفقات مشبوهة.
وبعد أخذ وردّ توصّل الرجل لتشكيل حكومة تضُمّ 41 وزيراً وكاتب دولة من بينهم أسماء من حزب التجمع الدستوري المُنحل وأخرى مرفوعة ضدّهم قضايا في المحاكم! وقدّم رئيس الحكومة المُكلّف لمجلس النواب برنامج حكومته الذي كان عبارة عن خطوط عامة دون تفصيل، وليس من قبيل المبالغة حين نُوصِّف هذا البرنامج بـ «المهزلة».
تتكوّن حكومة الصيد من خمسة أحزاب: حزب آفاق تونس وحزب الاتحاد الوطني الحر وحركة النهضة وحزب نداء تونس وحزب الحركة الوطنية. وقد صوَّت نواب هذه الأحزاب دون استثناء لصالح قانون المالية والميزانية لعام 2015 الذي تضمّن إجراءات عدة غير شعبية.
فعلى سبيل المثال بقيت موارد الجباية في هذا القانون بحسب دراسة أجراها الاتحاد العام التونسي للشغل مرتكزة إلى الأجراء وصغار الفلّاحين والمهن الحرّة مقابل 31% للشركات التونسيّة و18% للشركات البتروليّة (وهي شركات أجنبيّة وشركات شراكة)، كما تضمّنت الميزانيّة خفض نفقات دعم المواد الأساسية. إنّ الأحزاب المكوِّنة للحكومة تشترك في تبنّي خيار الليبيراليّة الاقتصادية والارتهان لإملاءات المؤسسات المالية والدولية.
وهي ترى أنّ تكيّف تونس مع النظام الرأسمالي العالمي وإصلاح بعض الأخطاء في النمط الاقتصادي الحالي هما الحل للأزمة الاقتصادية. يُعبّر حزب «آفاق تونس» عن هذا التوجه في إحدى وثائقه على موقعه الرسمي بعنوان «من أجل تونس منفتحة على العالم»، قائلاً: «إنّ مسار العولمة الذي يؤثّر في تونس وفي بلدان أخرى لا زالت في طور النموّ ما يفرض على بلادنا التكيف معه لتجنب تدهور وضعها الاقتصادي والأمني».
إنّ هذه الرؤية هي تعبير عن ما يسميه المفكر سمير أمين بهدف «اللّحاق» وهو هدف وهمي، لأنّه يُغفل التناقض بين المراكز الإمبريالية وعملائها من ناحية والجماهير الشعبية في بلدان الأطراف من ناحية أخرى.
فالحلول الاقتصادية لا يمكن أن تكون في إطار التكيّف مع الشروط الحاليّة التي تفرضها الدول الإمبريالية على دول الجنوب (آسيا، أفريقيا، أميركا اللاتينية).
إنّ المطلوب هو تجاوز النمط الاقتصادي السائد في البلاد منذ عقود لأنه نمط منتج للأزمات بطبيعته وموجَّهٌ للخارج أكثر ممّا هو موجّه للداخل. والخيار، وهو في الحقيقة ليس خياراً بل ضرورة تاريخيّة، هو فتح آفاق جديدة نحو اقتصاد وطني مستقل وتنمية متمركزة على الذات في قطيعة مع مشروع التبعية الذي تمثّله هذه الحكومة ومكوناتها اليمينية والرجعية.
المقاومة وتنظيمها
إنَّ المعضلة الأساسية في أغلب الحركات الاحتجاجية والانتفاضات السابقة هي طابعها العفوي وغياب الأُطر والتنظيمات التي تعبّر عنها (باستثناء بعض التحركات والإضرابات التي قادتها المنظمة النقابية). فسُرعان ما تنطفئ جذوة الانتفاضة وتعود الأمور إلى سابق عهدها لأنّها تفتقر لقيادات ثورية مُعبِّرة عن مطالبها، ولأدوات تنظّم نضالات الجماهير وترتقي بها من مستوى إلى مستوى آخر أعلى وأكثر جذرية. ليست مُهمّة تنظيم الجماهير سهلة بل هي عملية معقّدة ومسار شاقّ وصعب، ولكنّها ليست مُستحيلة.
فلقد أثبت التاريخ أنّ للشعب التونسي قدرة هائلة على التضحية، وأنّه يزخر بالطاقات التي يجب توجيهها وتزويدها ببرنامج عمل واضح الأهداف والمقاصد.
في كتابه «حدود اليسار الثوري» يُشير نديم البيطار إلى ضرورة الإبداع في اجتراح الحلول لتناقضات الواقع واستيعاب تشعُّباته كالآتي: «اليسار الثوري يستطيع أن يكون ناجحاً وفعّالاً عندما يستطيع تحديد الوسائل التي تتلاءم مع كل مرحلة من مراحل الصراع الثوري، وتنسجم مع منعطفاته الأساسية، فلا تتقلّص في مُجاراة الأحداث ولا تتسرّع فتسبقها بشكل يقطع علاقتها الديالكتيكية بها».
وأمام الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية وعجز النظام السياسي في تونس عن حل هذه المشاكل، ووقوفه عقبة أمام مشروع التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، فإنّ من المُحتمل اندلاع انتفاضات واحتجاجات واسعة النطاق. وعلى القوى الوطنية الديمقراطية الاستعداد لتلك اللحظة من خلال الانطلاق في بناء حركة جماهيرية واسعة، تستقطب العمال والفلاحين والمثقفين وفئات من البورجوازية الصغيرة وموظفي الدولة، وتنقاد ببرنامج ملموس ترى فيه الجماهير قابلية للتطبيق حتى تلتفّ حوله.
فالأهداف الاستراتيجية الثورية مهما كانت نقية وسامية ليست كافية لوحدها لتحقيق إجماع حولها وللتصدي لقوى اليمين المُناوئة للثورة.
المقاومة هي عنوان المرحلة لكنّها إذا لم تكن مرتبطة بآلام الناس وحركة الواقع فستبقى مجرّد عنوان أجوف.

"الأخبار  العدد ٢٥٣٧ الاثنين ٩ آذار ٢٠١٥"

jeudi 19 février 2015

مات عبد الله بن عبد العزيز وبقي آل سعود

حين يقعُ الإنسان فريسةً لمِصيدَة الموت المتربِّصة بكلّ الأحياء و يُغادر الحياة ، يُثير موته ردَّات فِعل و أحاسيس متناقضة تَختلف باختلاف الموقع الذي يحتلُّه المُتلقّي لخبر الوفاة داخل دائرة العلاقات الاجتماعية و الإنسانيَّة للميِّت. فيحرِّك "الغياب الأبدي للرّاحل" مشاعر متنوّعة مثل الحزن أو الفرح أو الشماتة أو اللاّمبالاة...
و إذا كان الرَّاحل من الشّخصيات العامّة ( رسَّام ، مُغنِّي ، زعيم سياسي ، أديب ...) فإنَّ وقع موته يشمل المجتمع بكلّيته أو ربما الإنسانية قاطبة مثل خبر قتل أيقونة الثورة "تشي غيفارا". و قد لا تتَّخِذ الأحاسيس شكلا مجرَّدًا بل  يُحوِّلها النّاس في بعض الأحيان لأشكال تعبيريّة مرئيّة و مسموعة كالنّواح أو الزّغاريد أو التّظاهر .
وقد كانت جنازة الموهبة العابرة للزّمان و المكان كوكب الشّرق أمّ كلثوم و جنازة الزّعيم الوطني جمال عبد النّاصر من أعظم الجنازات في التّاريخ العربي المُعاصر . و كانتا شاهدتيْن عن حجم الفاجعة التي ألمّت بالجماهير العربية برحيل أسماء بذلك الثّقل . حين تتدفَّق أمواج بشريَّة في جنازات إحدى الشَّخصيات العامّة، مثل جنازة بومدين في الجزائر أو الشّهيد شكري بلعيد في تونس أو عبد الناصر في مصر ، فإنّ ذلك يعكس المكانة التي كانت تحضى بها هذه الشّخصيات لدى النّاس . مكانة ساهمت في نحتها إنجازاتهم و توجُّهاتهم التقدميّة المعادية للفكر الظلامي و للإستعمار و إنحيازهم للكادحين (بالرّغم من الأخطاء التي شابت تلك التجارب) . في المقابل هناك جنازات لشخصيَّات سياسيّة لا يُسمَع فيها هدير الجماهير، بل صوت هدير محرِّكات الطَّائرات الَّتي تنقل المسؤولين و صنَّاع القرار الدّولي لحُظُور مراسم التَّعزية الجافّة والبارِدة . خبر وفاة الملك عبد اللّه بن عبد العزيز كان من النّوع الثَّاني الذي تهتزّ له المؤسسات الرَّسميّة الدّوليّة ، و قد عِشنا سباقا محموما بين الرّؤساء  و الملوك العرب في عدد أيَّام الحِداد الَّتي يقرّرونها في بلدانهم و في التّغنِّي بفضائله  لكن ، وبالرُّغم من المجهودات الجبّارة المبذولة من أقلام آل سعود و إعلامهم لتصوير عبدالله بن عبد العزيز على أنّه زعيم عربيٌّ مُنقطِع النَّظير ، فإنّ الشُّعوب العربيّة لم "تهتزّ لها قصبة" لخبر موته ، و لم تَملأ الشَّوارع باكيَة أو مودِّعةً إيَّاه . لأنَّها و ببساطة لم تَرَ منه ما يدفعها لذلك ، بل ربَّما رَأت منه ما يدفعها للإنتفاض ضِدَّه . فالتَّاريخ لم يتوقَّف عن تدوين الفضائع داخل السعودية إلى حُدُود الأيَّام الأخيرة  من حُكم عبد الله بن عبد العزيز ، و  التي كان آخرها جلد المدوِّن رائف بدوي و دعم التَّنظيمات الإرهابيَّة في سوريا و العراق . و في هذا السِّياق تراهن بعض التَّحليلات السَّطحيَّة على تغيير جذري في سياسات المملكة مع الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز و التحويرات الوزارية التي أجراها، مَثَلُهم في ذلك كمَثلِ الذين يراهنون على وجود "يسار إسرائيلي" يمكن التَّعويل عليه و التّحالف معه  للنضال ضدَّ الإحتلال الصّهيوني .
إنّ النُّظم السياسيَّة الملكيَّة هي بطبيعتها أنظمة رجعيّة لأنّها تعني أن تُورَّث فيها السُّلطة دون مراعاة لأيّ    مقاييس فالكفاءة لا معنى لها في هذه النُّظم و رغبة الشَّعب هي آخر ما يُنظر له ، و
المقياس الأوَّل و الأخير هو القرابة الدمويَّة الّتي بموجبها إنتقل الحكم من عبد الله بن عبد العزيز بعد موته لأخيه سلمان بن عبد العزيز . و من المؤكّد أنّ الملك الجديد و طاقمه الجديد ، الذي تمَّ تعيينه بعد تصفية جناح الملك السابق في أهمّ المناصب السّياسيَّة المُؤثِّرة، سيحافظ على "الثّوابت" التي سارت وفقها المملكة منذ تأسيسها إلى الآن . و من أهمّها التّحالف مع الاستعمار ، و مساعدته لوجستيًّا و مادّيا على تنفيذ سياساته العُدوانيّة في المنطقة . حيث أنّ النَّاظر للتَّاريخ يكتشف أنَّ تغيُّر الأسماء الحاكمة في مملكة قطع الرُّؤوس أو صراع الأجنحة داخل أسرة آل سعود لا يعني تغيُّرا في السّياسات المُتَّبعة من قبل السُّلطة في السّعودية ، التي تحافظ على خطّ عام يقوده "عقل" تكفيري وهابي رافض لكلّ أشكال الحضارة و الحداثة التي راكمتها الإنسانية ، و حاقد على المرأة التي يعتبرها عورة و عبئا على المجتمع . ويتعدَّى تأثير هذا الفكر الظَّلامي الحُدود الجُغرافيَّة  لمَملكة قطع الرُّؤوس لِيَشْمل عدّة بلدان و عِدّة مجالات ، و هُنا يأتي دور المال النّفطي ، الّذي يلعب دورا قذِرًا في شراء الذِّمم و أصبحت بسببه عديد الضّمائر مُجمَّدة في ثلاَّجات البترودولار . إنّ تركيبة الطّبقة الحاكمة في السعودية متشعّبة و مركّبة و هي مرتبطة عضويّا منذ ظهورها إلى اليوم بمصالح الرأس المال العالمي . فهي عبارة عن مشايخ قبائل وجدوا أنفسهم ، بدعم من الإستعمار، يحكمون دولة لكن ليس بفكر الدّولة وإنّما بفِكر قبلي و ذكوري متخلّف و متحالف مع رجال الدّين الظّلاميين . وقد تحوّل هؤلاء بفضل الثّروة النّفطية الهائلة إلى برجوازية كمبرادوريّة  لكن بممارسات إقطاعيّة في تعاملها مع ما تُسمّيه " الرَّعِيَّة ".
و من هذه الزّاوية فإنّه لن تتغيَّر السّياسات السّعودية على المُستوى الدَّاخلي و الخارجي دون تغيير الطّبقة الحاكمة برُمّتها . و إنّه لَمِن الجنون و العبث الرّهان على النّفط لإخماد الحرائق .    
                       
الأخبار اللبنانية : العدد ٢٥٢٢ الخميس ١٩ شباط ٢٠١٥

lundi 16 février 2015

القنيطرة:عين على سوريا و فلسطين


كانت أولى أهداف الكيان الصهيوني منذ 1948 انتزاع الاعتراف الدولي في مرحلة أولى بشرعيَّة وجوده، وفي مرحلة ثانية انتزاع الإعتراف العربي الرَّسمي ثمّ المرور، في مرحلة ثالثة، لتثبيت حقيقة الاحتلال في الذهنية العربية الشعبيَّة. العدُوّ الصّهيوني تجاوز المرحلة الأولى والثَّانية، وهو من هذا الموقع يعتبر كل اعتداء عليه عملاً إرهابياً وعدواناً سافراً على سيادته، وحتَّى الأنظمة العربية العميلة والرجعية في المنطقة توافقه في ذلك، وتتآمر على كل أشكال المقاومة وتتصدَّى لها. لكن ما يحُول دون تمرير هذه الاستراتيجيَّة بسلاسة ويؤرِّق قادة العدو الصُّهيوني هو وجود إيران وسوريا وحزب الله.

هذا المحور، الذي يضمن المحافظة على توازن سياسي وعسكري ضد الكيان العنصري الإسرائيلي، يُعامل الدولة الصهيونية بمرجعيّة ما قبل المرحلة الأولى. بمعنى أن حزب الله وحليفيه يرفضون ــ إلى حدّ الآن ــ الخضوع لمنطق «الأمر الواقع» الذي يفترض الاعتراف بـ»إسرائيل». إنَّ الاعتراف بشرعيَّة إسرائيل ليس مجرَّد ورقة يتِمُّ المصادقة عليها بل هو إجراء له استتباعاته السياسيّة والعسكريّة، والكيان الصُّهيوني يَعِي أهميّة هذه المسألة منذ تأسيسه، لذلك حاول، منذ سنوات، بشتَّى الوسائل إدخال سوريا إلى «حظيرة المعترفين». لكن سوريا أيضاً، تعي بدورها خطورة هذه المسألة لذلك رفضت كلّ الإغراءات وصمدت في وجه الحصار، وهي تقاتل اليوم أدوات الثَّالوث (الرجعية العربية و»إسرائيل» والإمبرياليّة) من تنظيمات إرهابية إسلامية وتشكيلات مسلَّحة، تتلقّى تدريبات عسكرية في تركيا أو الأردن.
وأحد أسباب هذه الحرب على سوريا هو أنّها تمثّل نشازاً بجانب أنظمة تتفنَّنُ في العزف على وتر العمالة للعدوّ. حاول الكيان الصهيوني عام 2006 تدمير الواجهة الأولى والتعبير العسكري الأوضح لهذا المحور، وقد مُنِي آنذاك الجيش الصهيوني بهزيمة مدوِّية. خلال تلك الحرب ساندت إيران وسوريا حليفهما حزب الله، واليوم تحاول «إسرائيل» من جديد كَسر المحور عبر بوابة سوريا وشنّ حرب بالوكالة عليها عبر تقديم الدَّعم المادي والعسكري واللوجستي لحلفائها الإرهابيين على أرض سوريا، وكما في حرب عام 2006 فإنَّ إيران وحزب الله يساندان سوريا ويقاتلان إلى جانبها في هذه الحرب. يعمل «محور المقاومة» ككتلة موحَّدة ومتكاملة، وما يعزِّز هذا التَّوجّه هو إعلان الأمين العام لحزب اللّه حسن نصر الله، منذ أشهر، عزم الحزب دخول المجال السُّوري لمواجهة الكيان الصهيوني. وما يمثِّل خلفيةً لتحرُّكات المحور هي المسألة، المشار إليها في بداية المقال، وهي عدم الاعتراف بشرعيّة الكيان الصّهيوني. لذلك ربّما وجد بعض كوادر حزب الله بصحبة الجنرال الإيراني في مدينة القنيطرة السوريَّة، وربّما كان العدوّ صادقاً حين قال إنّهم كانوا يخطِّطون لتنفيذ عمليات ضدَّ «إسرائيل». هذه العمليّات، لو تمَّت فعلاً، لكانت أعمالاً مُدانة وإرهابيّة بمقاييس «المُعترفِين»، أمّا في نظر «الرافضين للاعتراف» فهي طبيعيّة، بل إنّه من التقصير أن تَغِيب تلك العمليَّات. فطالما هناك إحتلال صهيوني لفلسطين ولأجزاء أخرى من الوطن العربي، فمِن الطّبيعي أن تكون هناك مقاومة من كلِّ الاتجاهات وعلى كل الجبهات بهدف إزالة الكيان الصهيوني وتدمير مؤسساته. هذا هو المنطق الذي يجب أن يَحكُم تفكير كل الوطنيين والثوريين وكل الشعوب العربية. وانطلاقاً من هذه الرُّؤية، يمكن أن نجيب وزير الدفاع الصهيوني حين تساءل: «ماذا كان يفعل أعضاء من حزب الله في القنيطرة؟» كالآتي: «وماذا تفعل أنت على أرض فلسطين؟».
شهداء حزب الله والشهيد الجنرال الإيراني محمد علي الله دادي كانوا في القنيطرة لأنّه على بُعد كيلومترات باتّجاه الجنوب من تلك النُّقطة توجد دولة الاحتلال الصّهيوني، وعلى بُعد كيلومترات باتّجاه الشمال توجد أدوات دولة الاحتلال من التنظيمات الإرهابية الدينية و»المعتدلة». وبتعبير آخر لأنَّ «القنيطرة عَيْنٌ على سوريا وعلى فلسطين».

"الأخبار - 2015 / 1 / 28"